قراءة أولى في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة
نشر بتاريخ: 2025/12/08 (آخر تحديث: 2025/12/08 الساعة: 21:24)

"استراتيجية الأمن القومي" التي أصدرها البيت الأبيض الشهر الفائت، وحملت توقيع دونالد ترامب، وفرت لنا بصفحاتها التي تقل عن الثلاثين، أداة لمعرفة أعمق وأدق، للسياسات الكونية للولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً في منطقتنا المشتعلة بالحروب والأزمات، فضلاً عن العديد من بؤر التوتر الممتدة من أوكرانيا إلى فنزويلا، وهي وإن تضمنت الكثير مما نعرفه، وخبرناه في ميادين النزاع، إلا أنها تكتسي قيمة هامة، لسبر أغوار ما يدور في "العقل الأمريكي"، أقله تحت ظلال هذه الإدارة، بعيداً عن التصريحات المضطربة والمُربكة، التي تصدر عن رئيسها.

أولاً؛ الشرق الأوسط، أهمية متناقصة

▪️واشنطن تحت حكم ترامب، ما زالت تسير على خطى أوباما في ولايته الأولى: إعطاء أهمية متناقصة لهذا الإقليم، فهي اليوم متحررة من ضغوط الاحتياج للطاقة الكربونية، ولديها استقلاليتها في هذا المجال، بيد أنها لا تريد لخزان الطاقة في الإقليم، أن يقع في أيدي قوة معادية أو مناوئة، تستخدمه للهيمنة والابتزاز.

▪️واشنطن تخلت عن مقاربتها القائمة على "تغيير الأنظمة"، وفرض إصلاح ونظم حكم بمعايير غربية، وتترك لدول المنطقة، تطوير أنظمتها وفقاً لتقاليدها المتوارثة (لا عزاء للإصلاحيين المتأمركين) ...نزعة تدخلية أقل، ووجود عسكري أقل، ومن منطلق نظرة للإقليم، لا بوصفه مصدراً لمختلف أنواع التهديدات، بل خزان فرص للاستثمار والشراكات التجارية والاقتصادية، وفي مجالات جديدة، تتخطى الحقول التقليدية كالنفط والغاز، إلى الطاقة النووية والتكنولوجيا والذكاء الصناعي والصناعات الدفاعية وتجارة السلاح.

▪️ محاربة الإرهاب العابر للحدود والهجرة غير الشرعية، وتأمين طرق الملاحة بالذات في مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر، والحفاظ على سلامة سلاسل الإمداد، في هذا السياق، تبرز إيران بوصفها دولة مزعزعة للاستقرار، يتعين احتواء تأثيراتها.

▪️ الحفاظ على أمن إسرائيل ما زال يحتل مكانة مهمة في هذه الاستراتيجية، ولكنها مكانة متناقصة، في جوانب، ومتزايدة في جوانب أخرى ... متناقصة لجهة ميل واشنطن لتفادي الحروب طويلة الأمد، ما قد يخلق تناقضاً موضوعياً بين حسابات واشنطن من جهة، وجنوح إسرائيل الجارف للهيمنة والتوسع من جهة ثانية ... واشنطن لن تقبل بحروب مفتوحة على أبعد الآجال، وهي لا ترغب في التورط عسكرياً، أو حتى الاحتفاظ بانتشار عسكري وازن في المنطقة، وإن فعلت شيئاً جديداً مغايراً على هذا الصعيد، كأن تحتفظ بوجود عسكري قرب دمشق، أو على الحدود بين لبنان وإسرائيل، أو غزة وإسرائيل،، فسيكون رمزياً ومؤقتاً، ولن يكون نقيضاً لميلها الاستراتيجي لتقليص تدخلاتها العسكرية وحروبها المفتوحة في المنطقة التي صبغت العقدين الأول والثاني من هذه الألفية.

▪️ في ظل هذه الاستراتيجية، ستتعزز مكانة دول الخليج، بما تتوفر عليه من فرص وثروات، وميادين جديدة للشراكات، كما اتضح في زيارة ولي العهد السعودي الأخيرة لواشنطن، ولكن ليس حساب إسرائيل، التي لديها ما تعرضه في ميادين التكنولوجي والذكاء الصناعي والصناعات الدفاعية، وهذا يحفظ مكانتها في الحسابات الأمريكية، حتى وإن تكشفت في حرب السنتين على غزة والمنطقة، بأنها ليست جديرة بدور قيادي في الإقليم، لا عملياً ومادياً، ولا أخلاقياً ومعنوياً.

▪️ دول أخرى، كالأردن ومصر وغيرهما، ستظل حاضرة في حسابات استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة، ولكن ربما من بوابات أخرى، غير تلك التي تدخل منها واشنطن لعواصم الخليج، وثمة مداخل عديدة لهذا الحضور، التي يأتي في مرتبة ثالثة، بعد إسرائيل ودول الخليج، منها المساهمة في البحث عن حلول وتسويات للأزمات المشتعلة (خصوصاً غزة، وسوريا)، إلى جانب محاربة التطرف والإرهاب

▪️ لسوريا الجديدة مكانة في الحسابات الأمريكية، تقوم على تمكين الإدارة الجديدة، من الإمساك بزمام الأمور...سوريا مهمة لجهة احتواء إيران وحشر حزب الله، ومحاربة المخدرات والكارتيلات العابرة للحدود، سوريا مهمة لجهة وقف الهجرات واستعادة اللاجئين، سوريا تمد يدها لإسرائيل وعلى الأخيرة أن تلتقطها، وهذا ما يفسر الخلاف القائم بين واشنطن وتل أبيب حول كيفية التعامل مع العهد السوري الجديد، وهنا تصطدم التوسعية الإسرائيلية المنفلتة من كل عقال، بالنزعة الأمريكية "الانسحابية" من الإقليم، والضجر من البقاء في حالة استنفار لمد يد العون لتل أبيب، ومساعدتها في حروبها غير المنتهية...هنا تفتح نافذة للحديث عمّا إذا كان بالإمكان تحويل إسرائيل مستقبلاً، من ذخر إلى عبء على الولايات المتحدة، إن ظل حالها على هذا المنوال.

 

ثانياً؛ فنزويلا و"مبدأ مونرو موسعاً"

▪️ حديث الاستراتيجية عن "النصف الغربي للكرة الأرضية “Westen Hemisphere”، يستعيد "مبدأ مونرو" ، يُحدّثه ويُضفي عليه من الأولويات والأدوات ما لم يكن ممكنا التفكير بها قبل أزيد من مئتي عام عندما أطلق لأول مرة، الأمريكيتين وما بينهما، منطقة نفوذ مهيمن للولايات المتحدة، لم يسمح من قبل للدول الاستعمارية الأوروبية بالتدخل فيها والسيطرة عليها، وفقاً للرئيس جيمس مونرو، واليوم لن يسمح ترامب لروسيا والصين، بأن تحتفظ بنفوذ مؤثر في هذه البقعة الشاسعة من العالم...مونرو تحدث عن أدوات عسكرية للجم القوى الأوروبية (اسبانيا بالذات)، ترامب يتحدث اليوم، عن أدوات تتخطى نشر الجيوش والقواعد، إلى التجارة والاقتصاد والاستثمار ويخصص دوراً ريادياً للقطاع الخاص لإنجاز هذه المهمة.

▪️ من هذا المنطق، يمكن فهم دعواته لضم كندا، وتغيير اسم خليج المكسيك، والتهديد بغزو بنما، والتدخل في كل انتخابات تشي مؤشراتها باحتمالات فوز اليسار، ودعمه المطلق لليمين الشعبوي المتطرف في القارة.

▪️ بهذا المعنى، تبدو فنزويلا نشازاً في الحسابات الأمريكية، يتعين التعامل معه، بعد أن فتحت أبوابها للسلاح الروسي والاستثمار الصيني والتعاون متعدد المجالات مع إيران .... فنزويلا أول اختبار لـ"مبدأ مونرو الجديد والموسع"، الذي يحمل توقيع ترامب، والأرجح أن الحرب معها، ستكون "كسر عظم" وبوابة للانتقال إلى دول كاريبية ولاتينية أخرى

▪️ وتحت ستار محاربة الهجرة وكارتيلات المخدرات العابرة للحدود، وهي تهديدات قائمة، ولا يجوز التقليل من خطورتها، يجري العمل حثيثاً على نزع "استقلالية" دول القارة اللاتينية، وكبح خياراتها في التقارب مع روسيا والتقرّب من الصين، كما يجري تجفيف أي تربة يمكن تخصيبها للتعامل مع إيران، أقله في المدى المنظور.

▪️ هذه أولوية في الحسابات الكونية الأمريكية، لا تضاهيها سوى أولوية الحضور في "الإندو – باسيفيك" وبحر الصين والشرق الأقصى، لمواجهة مصادر التهديد للتفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي الصيني...واشنطن التي تسعى للتحرر من "هيمنة الشرق الأوسط" وانغماس الإدارة بأزماته التي لا حلول لها، بالتركيز على مناطق بعيدة في الشرق الأقصى والأمريكيتين.

 

ثالثاً؛ أوكرانيا ضحية نظرة جديدة للناتو وأوروبا:

▪️ الاستراتيجية تضمنت نظرة جديدة للناتو، ودور القارة الأوروبية العجوز، استبطنت في بعض مفاصلها، ما كانت واشنطن قد بدأته منذ ولاية أوباماً الأولى...لا حاجة الاستمرار في توسيع الناتو وتوسعته، على أوروبا أن تتحمل قسطاً من أعباء الانفاق العسكري على الحلف، وأن ترفع إنفاقها العسكرية من 2 بالمئة إلى 5 بالمئة، وأن تعزز اعتماديتها على ذاتها في الدفاع، وتعزيز ثقتها بنفسها في قيادة الأزمات إلى ضفاف الحلول.

▪️ الاستراتيجية تحتفظ بنظرة غير عدائية لروسيا ولا تنظر للصين كشر مستطير، بل كمنافس تحتمل العلاقة معهن أشكالاً متفاوتة من التعاون والصراع، بخلاف الخطاب "الديمقراطي"، وهي بهذا المعنى، تستعجل حلاً سياسياً للحرب في أوكرانيا وعليها، حتى وإن كان بشروط مواتية لموسكو، وهذا يفسر إلى حد كبير، الانقسام الحاد بين ضفتي الأطلسي، حيال ما يخص أوكرانيا وروسيا، إذ مقابل نظرة أوروبية عدائية لموسكو، تقف حجر عثرة في وجه مبادرة ترامب لحل الأزمة، تبدي واشنطن استعجالاً لإنهاء هذه الصراع، وميلاً متعاظماً للاعتراف بالرواية والمصالح والمخاوف الروسية.

▪️ لا تخفي الاستراتيجية حرص واشنطن على دعم "التيارات القومية" في القارة العجوز، فهم شركاء طبيعيون لليمين الأمريكي التي تمثله إدارة ترامب، ومن قماشته، وقد اتضح في معظم الاستحقاقات الانتخابية الأوروبية، أن واشنطن لا تخفي انحيازها لليمين الشعوبي المتطرف...التزام لا يتناقض مع التزام آخر، بدعم "الديمقراطية" في أوروبا، طالما أنها "ديمقراطية" لا تمنع على هذه التيارات، من حقها في ممارسة حرية الرأي والتعبير والتظاهر والتنظيم، حتى وهي تأخذ في بعض الأحيان، منحى فاشياً طافحاً.