ليس لنا إلا أن نستمر
نشر بتاريخ: 2025/12/20 (آخر تحديث: 2025/12/20 الساعة: 23:56)

هبط الشتاء مبكراً هذا العام، فلم يكد ينتهي الخريف، حتى منحنا «شتوية» رائعة كانت الأرض عطشى وبحاجة لها. ولكن لم نكد نحتفل بهذا المطر العزيز الذي اشتاقت له أرضنا، حتى قفز فوراً في الذهن والشعور من يسكنون الخيام.

ترى ما الذي استخلصه العالم من سلوك دولة الاحتلال، ليس فقط في آخر عامين من اقتراف جرائم حرب وصلت حدّ الإبادة الجماعية للمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، بل منذ عقود مضت؟

تسارعت زيادة منطق القوة المتحالفة مع قوى تنطلق من النهج العدائي نفسه؛ فما حدث وما زال يحدث ليس له تفسير سوى تفسير واحد: ممارسة فعل القوة المتقدمة تكنولوجياً في التدمير والتهديد بها.

المفارقة أنه في ظل ممارسة كل شيء غير إنساني ودنس، تدعي دولة الاحتلال بطهرانية الديمقراطية، والأكثر مأساوية أنها تجد من يروّج لها في العالم علناً، ومن يصرف النظر عن جرائم الحرب التي تقوم بها دولة تدعي انتماءها للعالم والعصر.

منطق القوة الغاشمة والتهديد بها لن يحلّ الصراع؛ فقد زاد شعور الغضب والكراهية، وسنحتاج زمناً مضاعفاً للتغير، ولا أظن أن الشفاء النفسي سيتحقق في هذه البلاد؛ ففي مصدر الشرّ الدائم تصعب الحياة هنا وفي بلادنا العربية المهددة أيضاً.

من يتتبع تصريحات ساسة دولة الاحتلال اليوم، سيجد الأمر واضحاً، ليس فقط فيما يتعلق بفعل الحرب على المدنيين، بل في محدودية التفكير السياسي، وطغيان النهج الفاشي فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، خاصة في تفسير أي أحداث من منطلق الفهم الذاتي القاصر، الذي يربط العالم به، دون أن يحترموا لا كرامة الحكومات ولا الشعوب، ولعل حدث أستراليا هو المثال الجديد، والذي بالطبع لن يكون الأخير، وستستمر حكومة الاحتلال باحتقار العالم، بسبب احتكارها للدعم غير المحدود لدولة كبرى هي الولايات المتحدة المزوّد الأول بأسلحة التدمير الشامل، وما القنابل الطنية التي لا تلقى في أي حرب، إلا دليل عار يكلل جبين القتلة مدعي التوجهات السلمية.

وكل شيء صريح، ولم يكن «اللعب على المكشوف» بهذا الوضوح المخزي كما هو عليه الآن؛ فقد فاق كل المحرمات والخطوط الحمراء.

ورغم ذلك القبح كله، والذي لم تنج فلسطين منها على مدار قرن، إلا أننا ما زلنا متفائلين، ولكن هذا التفاؤل مرتبط بنا أولاً في فلسطين المحتلة، ثم بالأشقاء ثانياً، ليس لأنهم هكذا فقط، بل لأنه تم استهدافهم، وما زال الاستهداف يتم حتى يتحقق هدف الاحتلال بالقضاء ليس على جيوشنا كافة، بل ونهب مقدراتنا.

من هنا، فإننا، ومن خلال الدعم الشعبي العالمي لحقوق شعبنا، ومن خلال التغير السياسي والدبلوماسي العالمي - الغربي تحديداً، ومن خلال تخريب الاحتلال ليس فقط صورته القبيحة، بل تخريبه لعلاقاته مع دول العالم، فإننا عربياً قادرون على التقاط الفرص اللحظية لنكون كتلة مؤثرة، تنطلق من منطق حماية ممتلكاتها.

ولعل المفتاح الفلسطيني اللامع لا الصدئ، هو بداية الطريق؛ وهو يتجلى كأروع ما يكون بما ينبغي أن يكون، من خلال أن نكون معاً. وأن نكون معاً أمر ممكن الحدوث؛ فليست المشاعر هي المطلوبة هنا، بل أن نؤثر من داخل قلوبنا وعقولنا مصالحنا العليا على المصالح الشخصية والفئوية وغيرها.

لم تنته فرص إعادة الاعتبار للذات الوطنية، كما لم تنته فرص إعادة الاعتبار للذات القومية، كذلك للذات الإنسانية العالمي؛ فلم نمت لا نحن ولا الأشقاء ولا العالم مات.

وحتى نستمر بالتفاؤل، ورغم ما يعتري طريق وقف الحرب على غزة وإغاثة شعبنا وإعمار ما دمّر الاحتلال من عقبات؛ إلا أنه عملياً وإستراتيجياً، ليس لنا أن نتردد فيما نحن ماضون فيه وباتجاهه؛ فوجود دول من العالم في غزة، ونقصد به الوجود العسكري، سيرتبط به وجود سياسيّ وإغاثيّ، والأهم هنا هو في جعل دول العالم شاهدة عن قرب، ومتتبعة لما حدث وما زال يحدث، من انتهاكات وجرائم، ما يجعلها أكثر جدية في دعم فلسطين المنكوبة؛ فدولة الاحتلال دوماً تصرّ على إبعاد المنظور الدولي عن فلسطين، من أجل الاستفراد في نفيها عبر السطو عليها في مناطق فلسطين التاريخية.

سيكون دعم الدول في المراحل الأولى ضرورياً لتأمين الغذاء والدواء، وتسهيل استمرارية التعليم العام والعالي، كذلك في تهيئة الأرض للزراعة، فقد رويت أرض غزة بالماء أيضاً، وليس بالدماء والدموع والنار والتلوث. وستتحسن صحة أهلنا هناك، وبذلك، سيتواصل الدور الثقافي والفني، في كل الفضاءات الممكنة؛ فبمثل هذه العناصر نبقى ونستمر، وشعب بهذه المواصفات يستحق الحياة الفضلى، وعلى رأسها الحقوق السياسية المشروعة له، وليس فقط الاكتفاء بتوفير الخدمات والحاجات اليومية.

مرة أخرى، ومع تقديرنا لما تقوم به الحكومة من واجب الوقوف مع أهلنا في قطاع غزة، فإننا قادرون على مضاعفة الجهد، خاصة في المراحل القادمة. وللحق فإن الحكومة قامت بترميم ما تم تخريبه في شوارع مدينتَي جنين وطولكرم، حيث قامت بدعم البلديتين، لذلك فإنه، وكما قيل «اللي بنقص بخلص»، من الممكن الاستمرار في ذلك، عبر منظومة ونهج واضح، تكون مظلته الهيئة التي ستدير قطاع غزة. ونحن هنا وهناك نريد العنب لا الاقتتال مع الناطور.

سيتعمق اكتشاف العالم بأهمية تطبيق القرارات الدولية، وإقرار الحق الفلسطيني، وصدق توجهنا للسلام العادل، ووقتها ستنفتح عيون العالم على أهمية أن تتعامل دولة الاحتلال بالمثل، فلا تشغل العالم بقضايا تبالغ فيه، وهي من تفعل ضد السلام المستقبلي. سيكون عليها إن أرادت السلام الدائم أن تقبل قيام دولة فلسطين، وتغيير كل الأدبيات والبرامج والمناهج التعليمية التي تتعارض مع هذا التوجه.

وأخيراً، رغم الصعوبات أمام ما نطمح إليه، فهناك دوماً فرصة للسلام، إن تصدق النوايا؛ فبذوره ستنمو شجراً نستظل به ونأكل من ثماره.