مؤشّرات التغيير الإستراتيجي دولياً
نشر بتاريخ: 2025/12/25 (آخر تحديث: 2025/12/25 الساعة: 16:35)

بموازاة التغيّرات الدولية، التي دخلت مرحلة جديدة من الاضطراب، ما يؤشّر ويتجه نحو انتهاء عالم القطب الأوحد وهو الولايات المتحدة الأميركية، نحو عالم متعدد الأقطاب تواجه فيه الأمم المتحدة ومنظوماتها القيمية والمؤسّسية حالة من العجز وتراجع دورها في حماية الأمن والسلام الدوليين.

صمدت الأمم المتحدة خلال فترة «الحرب الباردة»، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وكانت واحدة من منتجاتها، وذلك في ظلّ الاستقطاب الثنائي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

سقوط وتفكّك الاتحاد السوفييتي ومنظومته ترك المجال أمام مرحلة أخرى، تمتّعت خلالها أميركا، متفرّدة بقيادة النظام العالمي لحوالي ثلاثة عقود، استقرّ خلالها دور الأمم المتحدة على أداء الدور استناداً للرؤية والسياسات الأميركية، وخلال تلك الفترة، ذهبت أدراج الرياح العديد من المطالبات بضرورة إصلاح وضع ودور وآليات عمل المؤسّسة الدولية.

انطلاقاً من الأضرار التي لحقت بكثير من دول العالم نتيجة للأنانية المفرطة للسياسة الأميركية. لم يستقرّ العالم، ولم ينعم بالسلام، خلال الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، إذ اندلعت حروب وصراعات في غير مكان من العالم، وانتشرت الكراهية، والعنصرية، والصراعات الحدودية، وتعرّضت مجتمعات للتفكّك، وانتشرت جماعات إرهابية متطرّفة وجماعات المرتزقة، في إفريقيا، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، ووسط وجنوب آسيا.

على أن كل هذه الصراعات، التي وقعت بفعل فاعل وتوظيفاً لهشاشة الكثير من المجتمعات المصنّفة نامية، لم تكن سوى اعراض جانبيه للتغيير الأبرز، وهو ظهور الصين كمنافس قوي يمتلك كل مؤهلّات القدرة، سواء اقتصادية أو عسكرية أو بشرية للمنافسة على الصعيد الدولي، وكانت الحرب التي شنتها روسيا الاتحادية على أوكرانيا المؤشّر العملي الأبرز في اتجاه تغيير النظام الدولي، نحو نظام متعدّد الأقطاب.

خلال سنوات الحرب التي وقفت فيها أميركا وأوروبا الغربية بقوة إلى جانب أوكرانيا، لم يُخف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هدفه الذي يتجاوز جغرافيا ميدان الحرب، حيث أعلن مراراً، ضرورة تغيير النظام الدولي أحادي القطبية إلى نظام متعدّد الأقطاب.

حلفاء أوكرانيا الأميركيون والأوربيون، كانوا يعتقدون أن هزيمة روسيا محقّقة، وأنها لن تصمد أمام تكاليف الحرب التي تقف خلفها اقتصادات ضخمة يتمتّع بها حلفاء أوكرانيا، وبأن الاقتصاد الروسي الضعيف، الذي لا يتجاوز حجم ناتجه القومي تريليونين وسبعمائة مليار دولار.

أكثر من ثلاث سنوات مرّت على الحرب، أنفقت خلالها أميركا وأوروبا، مئات مليارات الدولارات، انتعشت خلالها شركات إنتاج السلاح الأميركية خصوصاً، وتعرّضت روسيا لحصار وعقوبات اقتصادية لا يمكن التقليل من آثارها، لكنها لم تتراجع ولم تُهزم، بل إنها اليوم في الموقع الذي يملي شروطه.

انقلبت الأمور، فقد ظهرت ملامح تفكك الحلف الأميركي الأوروبي الأوكراني، وتعرضت الدول الأوروبية لهزّات اقتصادية، واضطرّت إلى أن ترفع مساهماتها للعمل الحربي بنسبة 5% بناء على طلب أميركا التي رفعت حمايتها عن أوروبا، وتتجه نحو تفكيك «الناتو»، وأخذت دولها ترتجف من إمكانية تعرّضها، أو شرقها على الأقلّ للتهديد من قبل روسيا.

الإستراتيجية التي أقرها دونالد ترامب للأمن القومي الأميركي، لا تخفي اعترافها بمؤشّرات التغيير التي تهبّ على العالم، خصوصاً من الصين وروسيا، وحلفائهما، ولذلك فإنها تسعى للتعويض من خلال تعزيز دورها ومصالحها في القسم الغربي من الكرة الأرضية، والاستمرار في ابتزاز الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد أن فشلت حملة ترامب، إزاء الرسوم الجمركية.

عودة إلى الأمم المتحدة ومؤسّساتها كتجسيد لطبيعة النظام الدولي، وكمؤشّر قوي نحو عملية التغيير الحاصلة، نلاحظ أن أميركا أخذت، وتتجه نحو اعتماد سياسات للانسحاب من الأمم المتحدة، ومنظوماتها ومواثيقها، ومنظوماتها القيمية.

أميركا انسحبت من «منظمة حقوق الإنسان»، ومن «اليونسكو»، ومن «منظمة الصحة العالمية»، وتوقفت عن دعم «الأونروا»، وانسحبت من اتفاقية المناخ، بل واختارت شنّ الحرب على مؤسسات العدالة الدولية.

دولة الاحتلال تسير على خطى أميركا، فهي تشنّ حملة تحريض بالأمين العام للأمم المتحدة، وتتهم مؤسساتها بمعاداة الدولة العبرية، ولا تتورّع عن توجيه الإهانة للمبعوثين الدوليين، ولمحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وكل مؤسسة يصدر عنها تقرير أو تحقيق أو تصريح ينطوي على نقد أو اتهام لدولة الاحتلال.

منذ فترة طويلة، وحتى قبل الحرب الإبادية على قطاع غزة، جرّدت دولة الاحتلال حملات لا تتوقف من الضغط على المانحين الأورووبيين والتحريض على منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية «الضمير»، و»الحق»، و»المركز الفلسطيني» و»الميزان»، لكنها لم تنجح في وقف نشاطات تلك المؤسسات.

حين تفشل دولة الاحتلال تتولّى أميركا المهمّة، فتفرض عقوبات على مدّعي عام الجنائية الدولية، وعلى قضاتها، من دون أن تخفي الدوافع والأسباب، وهي تتعلّق بدولة الاحتلال.

محكمة العدل الدولية، وقضاتها، وجنوب إفريقيا التي بادرت إلى رفع دعوى ضد دولة الاحتلال، تتعرّض لضغوط أميركية لا تتوقّف. منذ بضعة أشهر، وبقرار تنفيذي من ترامب خضعت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية المذكورة بما أنها الأكثر فاعلية لعقوبات أميركية، بهدف شلّ قدراتها على مواصلة دورها رغم أنها لم تُرمَ بصفة الإرهاب.

السيدة فرانشيسكا ألبانيزي، المفوض الأممي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي أصدرت تقارير وتغريدات تتهم فيها دولة الاحتلال بارتكاب إبادة جماعية، وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، هذه السيدة الشجاعة، تعرّضت لعقوبات أميركية قاسية لكنها لم تستسلم.

في تصريح لها قبل أيام قليلة دعت ألبانيزي إلى «مقاطعة دولة الاحتلال وطردها من الأمم المتحدة»، ذلك أن كل ما يصدر عن مسؤولين إسرائيليين يضع علامة استفهام كبرى حول دور دولة الاحتلال التي وقف مندوبها الدائم جلعاد أردان على منبر الأمم المتحدة، وهو يمزّق ميثاق المؤسسة الدولية، أمام أعين الجميع.

لا قوّة لأحد اليوم، ولا نظنّ أن أحداً يفكّر في تبنّي ما طالبت به ألبانيزي، رغم أن اعتراف الأمم المتحدة بدولة الاحتلال كان مشروطاً بقبولها دولة فلسطينية حسب القرار 181، ولكن ما تشهده الأمم المتحدة من ضعف وعجز، وحرب على مؤسساتها وقيمها، لا شكّ أنه مؤشّر قوي على أن هذه المنظمة قد شاخت، وتنتظر التكيّف مع النظام الدولي الذي يولد من جديد، ولا تستطيع أي دولة، وقف عملية التغيير.