شتاء غزة القاسي
نشر بتاريخ: 2025/12/29 (آخر تحديث: 2025/12/29 الساعة: 23:57)

بدت الأيام متشابهة على نحوٍ شاقٍّ ومرهق، كأنها نسخٌ متكررة من التعب والحزن والفقد والجوع، تتراكم فوق الروح حتى تفقد القدرة على تمييز الأيام والساعات والتواريخ، ولم يكن لأحد أن يتخيّل مثل ما جرى، ولا حتى في الأفلام والروايات البوليسية، فالكتّاب الكبار الذين احترفوا فنّ رسم الخيال الصعب لم تجنح أفكارهم إلى مثل دموية الأحداث التي وقعت ولا تزال في مساحة جغرافية ضيقة اسمها غزة. وبعد عامين وأكثر من شهرين على حرب الإبادة التي حوّلت الإنسان من دورة حياته الطبيعية إلى كائنٍ مشغولٍ فقط بالحفاظ على بقائه، ومنشغلًا بنفسه، غير قادر على التفكير في غير لقمة طعام تسند روحه وتمنحه سببًا جديدًا للاستمرار، وملجأً ليحتمي به في ليل الشتاء. فقد قلبت هذه الإبادة حياة الناس، وقتلت واقعهم وحولت غزة إلى جحيم دائم.

لقد عاد الإنسان في غزة إلى العصر البدائي في معيشته، وإلى ذلك الزمن البدائي الذي كان فيه همُّه الأكبر هو الحصول على ما يسدّ الرمق ويطفئ العطش، وعلى غطاءٍ وملبسٍ يقي الأجساد من البرد الشديد. لم يعد هناك ما يشغل بال الناس غير البحث عن النجاة، فلا فسحة أمل للتفكّر، ولا مساحة للأحلام التي كانت تزهر في صدورهم ذات يوم. انكمشت الحياة حتى صارت دائرةً ضيقة، محورها الأساسي سؤالٌ يومي، كيف سأجد طعامي؟ وكيف سأحافظ على من أحبّه حيًّا يومًا آخر، وأن أحميه من قصف الطائرات وغول الإبادة المستمرة، ومن صقيع الخيمة ومياه الأمطار التي تجري من تحتها.

لسان حال الناس في غزة، أيامنا هذه كأيامنا في العام الماضي وفي الشتاء الذي قبله، فهذا الشتاء الثالث الذي يمرّ علينا بمرارة الأيام والساعات والدقائق، ولم يتغيّر الحال في زمن الإبادة المستمرة؛ وإن توقّف القصف المكثّف، إلا أن المعاناة مستمرة، بل متصاعدة في كل أوجه الحياة التي لم تعد منذ زمن، تشبه الحياة، بل واقعًا غير صالحٍ للعيش والتنفس.

يسكنون العراء وسط البرد والشتاء، ولا حول لهم ولا عون يدفع عنهم شرّ الواقع، والعالم لا يزال يتباطأ في البدء بتنفيذ المرحلة الثانية من وقف الحرب والعدوان، رغم الحاجة الماسّة للناس، وضرورة تلبية الاحتياجات الأساسية، خاصة في ظل هذا الشتاء القارس، والموجات السيبيرية والقطبية شديدة البرد، والمطر الذي أغرق أهل الخيام في الطين والوحل.

سمعتُ أحدهم يصرخ بالدعاء، وهو غارق في مياه المطر يناجي ربَّه، "إلهي، لا تُغِثنا".