الكوفية:بعد خمسة أيّامٍ من إيقاف سلطات الاحتلال الإسرائيلي خطوط الهاتف والإنترنت في غزّة، ذاق الناس طعم الصمت الرقمي، عزلةٌ تبدو مريحةً للحظة لكنّها بالغة الخطورة، إذ تُحجب أصوات الناس وتُعطَّل القدرة على نقل جرائم الإبادة والتجويع إلى العالم.
في هذا الفراغ الإعلامي شنّت إسرائيل هجوماً جوياً واسعاً على إيران، وامتلأت جميع مؤسساتها السياسية والإعلامية بمستوياتها المختلفة في نشوةٍ صاخبة، بـما اسمتها عمليّة "شعب كالأسد" صُوِّرت كإنجازٍ خارق يُثبت براعة بنيامين نتنياهو وسلاح الجو الإسرائيلي في مفاجأة إيران. وروّج المعلّقون لقدرتها على تعطيل المنشآت النووية وقتل قادة وعلماء بارزين، لكن محلّلين آخرين شكّكوا في أنّ الضربة تؤخّر فعليّاً امتلاك إيران قنبلة نووية.
مساء السبت انقلب المشهد؛ ثلاث صفّارات إنذار دفعت ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ وسط وابلٍ من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية. تبدّدت نشوة النصر سريعاً لتحلَّ محلّها رهبةُ الدمار والقتلى، وبدأ سيلُ الانتقادات تجاه نتنياهو وحكومته المتهمة بدفع دولة الاحتلال إلى حربٍ تُحقّق حلمه القديم، منذ 18 عاماً، بتدمير البرنامج النووي الإيراني، حلمٍ كان يمكن تجنّب كلفته لو لم يُقنِع إدارةَ دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي.
وعلى اثر ذلك تسائل بعص المعلقين الإسرائيليين، "هل كانت الحرب ضرورية؟" وذكّروا بأنّ الإيرانيين أثبتوا، خلال حربهم مع العراق، قدرةً أسطورية على الاحتمال. ونصح بعض المعلّقين بخفض الخسائر والعودة إلى طاولة مفاوضاتٍ برعاية الإدارة الامريكية، قبل أن تجد إسرائيل نفسها تتوسّل وقف إطلاق النار وترفضه إيران.
المعضلة المركزية في الاستراتيجيّة الإسرائيلية أنّ إحداث ضررٍ عميق ومستدام بمنظومة التخصيب مستحيلٌ دون مشاركةٍ أميركيّة ذات وزن. حتى توسيع بنك الأهداف ليشمل منشآتٍ مدنيّة لن يُسقط النظام، بل سيُدخل الطرفين في حرب استنزافٍ طويلة.
يُقِرّ خبراء عسكريون إسرائيليون بعدم قدرة إسرائيل وحدها على تدمير المنشآت النووية، لذا تبنّى المستوىُ السياسي خطة "المُجمع، ضرب المواقع النووية، تفكيك الدفاعات الجوية، تقليص التهديد الصاروخي، واستهداف النخبة الأمنية والعسكرية والسياسية، مع التلويح بضرب البنية التحتية النفطية، كلّ ذلك لجرّ إيران إلى مفاوضاتٍ من موقع ضعف، أو على الأقل تأجيل مشروعها سنواتٍ أخرى.
تدميرُ البرنامج النووي عسكرياً رهينٌ بشرطين: انضمام الولايات المتحدة بما تملكه من قنابل خارقة للتحصينات، أو خوض حملةٍ جويةٍ طويلة تُنهِك الجميع. الخيار الثاني يعني حرب استنزافٍ قد تمتدّ أشهراً؛ صواريخ ومسيرات متقطّعة، شللٌ جزئي لمطار بن غوريون، وأزماتٌ اقتصاديّة وتعليميّة.
وسط نشوة "الضربة الافتتاحية، يُحذّر خبراء عسكريين من افتقار العملية إلى "آلية ختامية للخروج" واضحة. فصبرُ إيران الطويل او ما اسميه بالبلادة يجعل تطويل الاستنزاف انتصاراً بحد ذاته، وهي لم تستخدم بعد صواريخ "خُرمشهر" ذات الرؤوس الأثقل ولا صواريخ كروز منخفضة البصمة الرادارية.
ومهما بلغ تفوّق سلاح الجو والموساد، يبقى أمامهما ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف هدفٍ في رقعة إيران الشاسعة؛ رقمٌ يحوّل التفوّق إلى مجرّد حسابٍ نظري. الأثمان المتوقَّعة تفوق كثيراً ما تكبّدته إسرائيل في حروبها مع غزّة، ولا مفرّ من حلٍّ سياسي يسبق الخسائر المقبلة بدل أن يليها.