قطاع غزة: على مفترق السرايا وسط مدينة غزة، يقف عدد من الباعة يعرضون أكياس الدقيق بأسعار تتغير من ساعة لأخرى، وكأن هناك اتفاقًا ضمنيًا بينهم لتوحيد الأسعار، بينما يتنقل المواطنون بين الأسواق بحثًا عن السلع الأساسية بلا جدوى.
برزت أزمة احتكار البضائع بشكل واضح في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة، مضيفة عبئًا جديدًا على كاهل السكان المثقلين أصلاً بالأزمات، وسط غياب الجهات الحكومية الرقابية بسبب استهداف الاحتلال لقوات الأمن والهيئات الرسمية.
يعاني أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع من ارتفاع مهول بأسعار السلع، نتيجة تعمد فئة محدودة احتكار البضائع، وإخفائها عن الأسواق أحيانًا لتبرير رفع أسعارها دون رقيب.
الأسباب الحقيقية وراء احتكار السلع في غزة
يرجع مختصون اقتصاديون أسباب احتكار السلع الأساسية في غزة إلى عاملين رئيسيين: الأول هو استيراد بضائع القطاع من خلال عدد محدود من الشركات التي تعمل مع إسرائيل ومصر، في أوقات محدودة تسمح فيها سلطات الاحتلال بإدخال البضائع، مما أتاح لهم فرض أسعار مرتفعة وأرباح كبيرة وسط غياب الرقابة الحكومية.
أما السبب الثاني، فهو ظهور تجار جدد خلال الحرب يعتمدون على جمع البضائع من السوق، بما في ذلك المساعدات التي يمتلكها البعض، واحتجازها في المخازن حتى إغلاق المعابر، ليبيعوها لاحقًا بأسعار مرتفعة تخدم مصالحهم.
وبحسب خبراء استطلعت «الكوفية» آراءهم، فإن المواطنين يضطرون أحيانًا لشراء السلع الأساسية بأي ثمن في ظل عدم وجود بدائل، خصوصًا للدقيق وزيت الطهي والسكر والأرز والبقوليات.
تشير بيانات جهات حكومية بغزة إلى أن عدد الشاحنات التي تدخل القطاع أثناء فترات السماح بإدخال البضائع لم تتجاوز 9% فقط من حجم ما كان يدخل قبل 7 أكتوبر 2023. فبعد قلة الشاحنات في الأشهر الأولى من الحرب، وصل عددها إلى عشرات يوميًا في فترات التهدئة، قبل أن تغلق المعابر مجددًا وتستأنف الحرب.
متوسط الشاحنات الداخلة يوميًا يبلغ نحو 450 شاحنة، بينما يحتاج القطاع إلى أكثر من 700 شاحنة لتغطية حاجاته الأساسية.
انعكاسات الاحتكار على الاقتصاد والمعيشة
يواجه سكان غزة أوضاعًا معيشية صعبة، حيث يقاسي أكثر من مليوني فلسطيني أوضاعًا إنسانية قاسية بين القتل والتجويع.
يوضح الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر لـ«الكوفية» أن الاحتلال عمد إلى حصر استيراد البضائع في أيدي خمسة تجار فقط، الأمر الذي ساعد على احتكار السوق ورفع الأسعار بسبب كميات البضائع المحدودة وسياسة "التقطير".
ويشرح أن هؤلاء التجار يبيعون تصاريح الاستيراد لتجار آخرين بأسعار باهظة، ما أدى إلى تضاعف الأسعار وتحميل السكان أعباء إضافية، في ظل فقدان غالبية السكان لمصدر دخلهم.
كما يلفت إلى احتكار القطاع المصرفي، وعمليات تحويل الأموال النقدية (التكييش) بأسعار عمولة مرتفعة، في ظل إغلاق البنوك، ما زاد من أزمة السيولة.
ويشير إلى أن هؤلاء التجار رفضوا التعامل بالأوراق النقدية القديمة وفئة العشرة شواقل، مما أربك سوق النقد وجعل التعامل مع الأموال أمراً صعباً، وازدادت أزمة السيولة، في حين لم تتحرك سلطات النقد أو البنوك بشكل فعال.
كما أدت هذه الممارسات إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الدقيق والسكر بنسبة تجاوزت 1000%، ما خلق حالة من التشوه الاقتصادي وارتفاع حاد في التضخم.
ويضيف أبو قمر: "نشهد تغيرات غير مفهومة في أسعار السلعة الواحدة خلال اليوم ذاته، تصل أحيانًا إلى ارتفاع وانخفاض متتابع بنسبة تفوق 80%."
ويشير إلى أن استهداف وزارة الاقتصاد ومباحث التموين من قبل الاحتلال أوقف قدرة الجهات الرسمية على ضبط السوق، وجعل السوق السوداء تتحكم بالأسعار دون أي رقابة فعالة.
تحديات الجهات الحكومية في مواجهة الأزمة
يرى مصدر في وزارة الاقتصاد الوطني بغزة أن الاحتلال استهدف منذ بداية الحرب الجهات الرقابية، مشيرًا إلى استهداف العاملين في الوزارة وملاحقة فرق التفتيش، مما شل جهود ضبط الأسعار.
ويقول المصدر لـ«الكوفية» إن الاحتلال يدعم حالة الاحتكار من خلال أذرعه المحلية التي تستغل حاجة السكان، عبر سياسة التقطير والاحتفاظ بالبضائع ورفع الأسعار.
ويرصد المصدر ثلاثة مسارات رئيسية للاحتكار: التحكم في كميات البضائع التي يسمح الاحتلال بإدخالها، واحتكار البضائع محليًا عبر إخفائها ثم طرحها بأسعار مرتفعة، وشراء المساعدات وبيعها بأسعار مرتفعة عند اشتداد الحاجة.
ويعترف المصدر بأن الجهود الحكومية لمواجهة الاحتكار ضعيفة، مقتصرة على حملات تفتيشية وتحديد سقف للأسعار، لكنها تعاني من غياب الردع، بسبب استهداف الكوادر والتهديدات التي تعرضوا لها، بالإضافة إلى عجز الوزارة عن التحكم في المعابر.
وتشير تقارير إلى استهداف قوات الاحتلال لفرق تأمين المساعدات والتفتيش بغارات أدت لاستشهاد عشرات العاملين، في محاولة لخلق فوضى تسمح باستمرار سياسة التجويع.
كيف يمكن كسر احتكار السوق؟
يرى مختصون أن تجاوز احتكار السلع لن يتحقق إلا بوقف العدوان وعودة السوق الحرة، مع فتح باب الاستيراد أمام كافة التجار، وعودة الدور الرقابي الرسمي تحت إطار حكومي ناظم.
ويؤكد وائل بعلوشة، مدير مكتب الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) في غزة، ضرورة تعزيز دور الجهات الرقابية مثل دائرة حماية المستهلك، وتطوير منصات الشكاوى، والاستجابة الجدية لشكاوى المواطنين.
ويشدد بعلوشة على أهمية تفعيل دور القطاع الخاص في توعية المواطنين والتجار، واتخاذ إجراءات رادعة ضد الاحتكار.
ويطالب بعلوشة أيضًا بتحسين مراقبة عمل محال الصرافة لمنع فرض عمولات مرتفعة على تحويل السيولة، وتمكين سلطة النقد من ممارسة دورها الرقابي.
في النهاية، يشدد المختصون على أن استمرار معاناة غزة من الاحتكار وغلاء الأسعار مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحصار والعدوان الإسرائيلي، وأن الحل الجذري يكمن في رفع الحصار وفتح الأسواق الرسمية وعودة عمل مؤسسات الدولة بشكل كامل.