وتستمر ساقية الدم في غزة بالدوران دون توقف لأن طرفيها يريدان الحد الأقصى غير الممكن حتى اللحظة. أحدهما يرفض استيعاب واقع هزيمة استدعاها لنفسه في ظل خلل فادح في السلاح وموازين قوى كانت شديدة الوضوح لمن يقرأ في السياسة، وطرف يعتبر أن ما حققه في العام ونصف الأخيرين يوفر له فرصة إعادة هندسة الواقع، معتمداً على قوة عسكرية تنتهي امتداداتها لكل مخازن السلاح المفتوحة الأكثر تطوراً في العالم والأكثر قدرة على القتل الفردي والجماعي.
بات واضحاً أن إسرائيل الطرف الذي بات يملك زمام المبادرة أمام خصم بات ضعيفاً، إلى هذا الحد لا تكف اسرائيل عن التنصل وخداع الوسطاء وأهالي الأسرى، تهدد باجتياح غزة، وما بين بدايات الحرب وخوفه من الاجتياح كما قال عضو الكابينيت الحربي آنذاك بيني غانتس، وما بين استسهال الاجتياح الآن والتحضير له تكمن نتيجة الحرب. وهي النتيجة التي تترجم نفسها سياسياً وعلى طاولة التفاوض كما هو متعارف عليه في كل حروب التاريخ ومعاركه، إلا لدى الفلسطينيين الذي استدعوا كل هذا الخراب والهزيمة، وبات الاعتراف بها يشكل حرجاً لمن رفع سقف الكلام عالياً دون دراية أو معرفة بالأبجديات، ليجد الفلسطيني نفسه في غزة معلقاً على شجرة لا يتوقف عن النزيف.
يبدو أن نتنياهو استطاع أن يضلل الجميع مؤجلاً الحديث عن اليوم التالي إلى حين صناعة اللحظة التي تمكنه من أن يقدمه. فقد كان مخادعاً وهو يترك للجيش في عهد غالانت - هاليفي أن يجرب حظه، لكنه كان يحتفظ برؤيته منتظراً صديقه ترامب للسيطرة على غزة، وها هو ترامب الذي أحدث ما يكفي من فوضى السياسة يعلن عن خطة تعيين «بول برايمر «جديد لغزة لكن الأمر لم يستقر بعد.
«لا هدن مؤقتة» هكذا تعلن حركة حماس على لسان عضو مكتبها السياسي باسم نعيم، وبالنسبة لإسرائيل لا وقف للحرب دون تطبيق رؤيتها بإنهاء حكم حماس وتجريد غزة من السلاح، وفي كل الحروب تتوقف الحرب عندما يدرك الطرف الضعيف أن ليس بإمكانه الاستمرار، وأن في ذلك ما يرفع كلفة الخسارة، ولكن الأمر بالنسبة لحركة حماس يعتبر مسألة حياة أو موت، ليس فقط لطبيعة الصراع مع اسرائيل الذي لا يجب أن ينهزم فيه الفلسطيني، والذي فعلت الحركة عكسه لتستدعي الهزيمة. ولكن في الاعتراف بالهزيمة ما يخضعها لشروط تعني في مجملها إسدال الستار على فكرة الحركة التي تأسست كحركة مقاومة مسلحة، وأقنعت الناس بصوابية برنامجها العسكري وقدرته على تحرير الأرض، لتكتشف أنه تسبب بإعادة احتلال غزة وضياع ما كان من الأرض.
بكل الظروف نحن أمام تساؤلات تقف أمامها حركة حماس وجدارة برنامجها، وهو يعتبر مبرر وجودها كدور وظيفي استدعاه التاريخ لتعبئة فراغ أحدثه فشل عملية التسوية عندما قدمت قمة كامب ديفيد صورة الفشل، وتنامت قدرة الحركة حين اندلعت الانتفاضة الأقرب لبرنامجها الصدامي والذي يعلن فشل المسار الذي ذهبت إليه حركة فتح، في ظل هذا المناخ تنامت حماس، لكن ما حدث في العام ونصف الأخيرين والفشل العسكري الذي تحقق وفداحة التكلفة يضع برنامج حماس أمام تساؤلات ستطال الحركة نفسها ودورها الوظيفي. فماذا ستقول في برنامجها لاحقاً إعداداً للتحرير؟ أم مفاوضات؟ لقد مست هذه الحرب بجدارة الفكرة والبرنامج والهيكل.
هنا العقدة التي تكمن بها أزمة حركة حماس بالاعتراف بخطأ الاندفاعة أكثر مما يجب، ورفع مستوى الصراع للحد الأقصى ودفع المعادلة نحو صفرية لا تستطيع لا هي ولا الشعب تحمل تبعاتها، فالاعتراف يعني إقرار الحركة بإسدال الستار على تجربتها ومشروعها، لا يعني ذلك الإمعان في الإعلان الرسمي عن ذلك بل ضروري لفهم ما يحدث، وكيمياء السياسة لدى حركة كان لديها فائض من الحلم حد الوهم وقليل من العلم بالواقع والوقائع.
لذا تقف الحركة أمام مأزق وجودي هو الأصعب منذ انطلاقتها، وصار ينسحب على الشعب الفلسطيني في غزة. ففي استمرار الحرب انتحار لا أمل منه، وفي الاعتراف وتحمل تبعاته انتحار لا يقل وطأة. لذا فقد باتت مساعدة حماس على الانسحاب من المشهد بهدوء مهمة وطنية بالدرجة الأولى تضمن إنزالها هي والغزيين عن الشجرة ووقف النزيف المستمر.
إسرائيل لن تترك غزة بكل الظروف، ومن السذاجة أن نعتقد أن وقف الحرب وعودة الأمور مسألة ممكنة، ففي ذلك الاعتقاد ما يضمن استمرار النزيف حد الموت، اسرائيل تعمل منذ أسابيع في رفح لدفع الناس هناك، ومنذ أسابيع تناقش مسألة التحكم بالمساعدات بالتعاون مع الأميركي الذي لم يكن إعلانه في السابع من نيسان الماضي لدى استقباله نتنياهو «بالسيطرة على غزة « مجرد كلام عابر، بل جزء من خطة مدروسة بين الثنائي. فقد كان نتنياهو يعد لها مبكراً قبل أن يغادر بايدن، لذا كان يخفي خطة اليوم التالي بينما كانت الحركة الفلسطينية تحتفل قبل أسابيع بلافتة تكتب عليها «نحن اليوم التالي» هكذا تسير السياسة لدينا... ولديهم أيضاً..!