لم ينجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تحقيق السلام، ووقف الحرب، بعد مرور المائة يوم الأولى له من العودة للبيت الأبيض، وذلك كما وعد سواء في حملته الانتخابية، أو بمجرد دخول البيت الأبيض، ورغم ذلك فإن آفاق إنهاء حرب روسيا/أوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تلوح في الأفق، كما ان ملفات صراع عديدة قد شرعت إدارة الرجل في تبريدها، أو قطع الطريق على احتمال ان تتحول بدروها الى حرب ساخنة، ويبدو ان ترامب في سبيل عقد الصفقات السياسية_التجارية مع الخصوم، لديه الاستعداد الى ان يضحي بالحلفاء، كما لو كانوا مجرد بيادق في لعبة الشطرنج التي يلعبها مع خصومه، وهو على كل حال، يسعى لأن يجعل من منافسيه خصوماً، اكثر من رغبته في تحويلهم الى أعداء.
الأمثلة على ما نقول عديدة، وإذا كان الاستثناء الوحيد والأهم، في هذا السياق، أي سياق «تبريد» ملفات الحروب والصراعات، لصعوبة وقف الحروب وحل الصراعات بقرار او في لحظة، هو ملف التنافس الاقتصادي مع الصين، وكان الملف الوحيد الذي ورثه عن سلفه، واحدث فيه توتراً، تحول الى «هزة» عالمية، ها هو ترامب يتراجع، ويعلن خفض النسبة التي كان قد اعلنها والخاصة بالتعرفة الأميركية على المستورد الصيني، وفي الوقت نفسه يدعو الصين للتفاوض، ويبدو أن ترامب كمفاوض تجاري يبدأ بسقف عال، الهدف منه هو المساومة، حيث سرعان ما يبدي استعداده للهبوط به، شيئاً فشيئاً وهكذا فعل مع العديد من الأطراف، سواء مع المكسيك، أو بنما أو كندا.
تبقى البوصلة الأميركية نحو زعامة العالم، وكيفية الحفاظ على النظام العالمي الحالي، الذي جعل منها زعيماً وحيداً له، ومشكلة أميركا انها باتت تدرك بأن تلك الزعامة العالمية، لم تعد تستند فقط لقوتها العسكرية، والتي هي على اي حال، تجد ازاءها منافسة روسية بالدرجة الأولى، تعيد التذكير بالحرب الباردة، التي كان قطباها الدولتين الأقوى عسكرياً في العالم، بل باتت الزعامة العالمية تستند للقوة الاقتصادية ايضا، وفي هذا الحقل وجدت اميركا في الصين المنافس الأقوى منذ ما بعد ظهور نظامها العالمي، والأخطر على اميركا هو ان الاقتصاد الصيني لا يجلس على المكانة الثانية وراءها وحسب، وليس في كونه يوزع منتجاته وسلعه على كل ارجاء الكون، بما في ذلك السوق الأميركي نفسه، ولكن في نسبة النمو الكبيرة، التي تؤهل الاقتصاد الصيني لتجاوز الاقتصاد الأميركي بعد سنوات قليلة، ليقبع في المكانة الأولى عالمياً.
وبالنظر الى ملفي الحرب الساخنة، اللذين ورثهما ترامب عن سلفه، وهو الرئيس الذي جاء ليس فقط بوعود وقف الحروب، بل ببرنامج وحزب يؤمن بالحروب التجارية، وليس بالحروب العسكرية، ويتطلع الى رسم صورة مستقبلية اكثر من يتطلع للإبقاء على واقع الحال، او إعادة إنتاج الماضي، لذلك ظن ترامب الذي تورط بالمبالغة في تقدير مستوى تأثير صداقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه يمكنه ان يوقف حرب روسيا مع أوكرانيا بمجرد الإشادة بالرئيس الروسي، وبتقديم كل اوراق التنازل الأوكرانية قبل بدء التفاوض، ورغم ان الملف لم يغلق بعد، إلا ان «تضحية» ترامب بالبيدق الأوكراني، نقصد الرئيس فلوديمير زيلنسكي، قد حقق لأميركا وروسيا على حد سواء، أو معاً، ما أرادتاه، لأميركا اتفاقية تمنحها الحصول على معادن أوكرانيا الثمينة، وروسيا على جملة من الأهداف: ضم ربع أرض أوكرانيا، وبالتحديد القرم والمناطق الشرقية، حيث التداخل السكاني الروسي/الأوكراني، ومنع أوكرانيا من الانضمام لحلف الناتو، وهكذا يبدو بأن الطريق صار ممهدا نحو وقف الحرب في تلك المنطقة.
أما في الشرق الأوسط، ورغم أن حرب الإبادة الإسرائيلية ما زالت متواصلة على قطاع غزة، بل دخلت منذ نحو شهرين بشكل صريح وواضح باستخدام جريمة الحرب التي لا غبار عليها، وهي حرب التجويع، بمنع كل اشكال المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء وحتى ماء، إلا أن ترامب بدأ في «تبريد» أكثر من ملف مرتبط بهذه الحرب، وقد بدأ بقلب ظهر المجنّ لبيدقه في الشرق الأوسط، أي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، حين أعلن قبل أكثر من شهر عن التفاوض مع ايران، وقطع بذلك الطريق بشكل شبه نهائي، عما كان يحلم نتنياهو به كنهاية لحربه على الشرق الأوسط، التي أطلقها قبل أكثر من عام ونصف، ثم وبشكل مفاجئ، توصل ترامب، الذي كان يهدد اليمن باعتبارها الدولة التي لم تتوقف عن المشاركة في الوقوف مع غزة في خندق الحرب، بجحيم لم تعهده من قبل، فاجأ الدنيا باعلان ثنائي بينهما عن وقف العمليات العدائية، والاتفاق اليمني / الأميركي برعاية عمانية، نص على وقف الاعتداءات العسكرية الأميركية على اليمن مقابل وقف اليمن لاستهداف السفن والبوارج الأميركية.
أي أن الاتفاق اليمني/الأميركي لم يشمل إطلاق اليمن للصواريخ والمسيّرات على إسرائيل ولا استهداف السفن الأخرى غير الأميركية، وهكذا يكون ترامب قد انسحب من مشاركة إسرائيل الحرب، ليس فقط بقطع الطريق على أحلام نتنياهو بشن حرب على إيران، او بمشاركة إسرائيل في حرب على ايران لتدمير مفاعلاتها النووية وإسقاط نظامها الحالي، بل بالانسحاب من الجبهة الوحيدة التي ظلت أميركا منخرطة فيها لجانب إسرائيل وهي جبهة اليمن، أي ان اميركا، تقول لنتنياهو ما قالته لزيلنسكي، اذهب وقاتل وحدك، نحن لن نقاتل أعداءك بدلاً منك، ولن نقاتلهم معك.
أي أن أميركا /ترامب تنظر للمصلحة الأميركية المباشرة والصريحة، بعينيها الاثنتين، ولم تعد قادرة على حمل أعباء حلفاء صغار، او ضعفاء، غير قادرين على مواجهة خصومهم وأعدائهم وحدهم، وواضح بأن اوكرانيا التي لم تكن قادرة على صد الروس بالدعم العسكري والسياسي وفرض العقوبات على روسيا، لن تكون قادرة على مواصلة الحرب في ظل توقف ذلك الدعم، كذلك اسرائيل، التي رغم تحقيقها انجازات تكتيكية مع الإسناد العسكري والمالي والسياسي، بل والانخراط الأميركي معها في حربها في الشرق الأوسط وعلى عدة جبهات، لن تكون قادرة على مواصلة هذه الحرب، في ظل رفع أميركا يدها عنها، ومن الواضح، وكما أن الحرب لم تتوقف تماما بين روسيا وأوكرانيا، كذلك لم تتوقف الحرب في الشرق الأوسط بمجرد إعلان التفاوض مع إيران، ومن ثم الاتفاق الأميركي مع اليمن.
مع ذلك فإنه يمكن القول، بأن أمام حربي روسيا/أوكرانيا والشرق الأوسط مجرد أيام او أسابيع قليلة، حتى تتلاشى الحرب، وتهدأ تماماً، مثل النار المشتعلة، التي يبدأ إطفاؤها، بوقف تزويدها بالوقود، ومن ثم تنطفئ حتى لو لم يتم إغراقها بالماء، وربما كانت حالة الحرب على غزة، هي الأقرب للتوقف خلال أيام، فمعظم المراقبين والمتابعين يقولون بأن هناك شيئاً ما بهذا الخصوص يلوح في الأفق، قبل زيارة ترامب السياسية/التجارية الخارجية الأولى، بعد زيارة العزاء البروتوكولية في وفاة البابا، اي زيارته للشرق الأوسط ما بين 13_15 من الجاري، اي الأسبوع القادم، وهي تعتبر مفصلية، وقد اختارها ترامب لأهميتها بالنسبة له حيث سيحصل على ما بين 3_4 تريليون دولار استثمارات من ثلاثي الخليج الغني، بما يعني ضخ الاقتصاد الأميركي بماء الحياة في مواجهة منافسه الصيني.
والسؤال الذي يتبادر للذهن فوراً مرتبط بما ستقدمه اميركا من ثمن مقابل هذا الدعم العربي الخليجي، وطبيعي بان السعودية والإمارات وقطر ستحصل على مقابل خاص، وربما يصل الأمر لاستبدال أوروبا بالخليج كتحالف دفاع مشترك، لكن ربما أيضاً سيضطر ترامب لتقديم تنازل إضافي خاص بالملف الفلسطيني، هذا إذا اجتمعت الدول الثلاث عليه اولاً وأصرت عليه ثانياً، ويبدأ ذلك بملف غزة، حيث أكد ترامب نفسه بأنه سيتم الإعلان عن تفاصيل المحادثات حول غزة، خلال ساعات، وقد بدأت شقة الخلاف الأميركي /الإسرائيلي تظهر فيما يخص ملف المساعدات، حيث إن أميركا بادرت من اجل فتح الباب لدخول المساعدات الى جمع منظمات الإغاثة الدولية في جنيف، لتجسير الفجوة مع الخطة الإسرائيلية لتوزيع مساعدات الإغاثة، ووقف حرب التجويع القائمة.
ولأن ترتيب ما يخص اليوم التالي، يعتبر حاسماً، لحظة وقف الحرب، فإن جمع حصاد الحرب على غزة المر، يشير الى أن أميركا تبحث مع إسرائيل تشكيل إدارة مؤقتة لغزة، تستبعد حماس والسلطة، كل هذا لا يعني بأن ترامب قد خرج من مسار الحرب الإسرائيلية خاصة فيما يخص غزة بالتحديد، لكنه يضع بذلك عراقيل أمام «مركبات جدعون» الإسرائيلية، والأهم أنه قد نسي تماماً الحديث الذي بدأ به الانخراط في ملف الحرب الإسرائيلية على غزة قبل أكثر من ثلاثة شهور، والذي كان يدور حول التهجير، ووضع اليد وتحويل غزة الى ريفيرا شرق أوسطية خالية من سكانها، لتكون منتجعاً لأثرياء المنطقة، كاستثمار أميركي لحرب إبادة مروعة.